الباحث القرآني
﴿مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ﴾ المَذْكُورَيْنِ، أيْ: حالُهُما العَجِيبُ؛ لِأنَّ المَثَلُ لا يُطْلَقُ إلّا عَلى ما فِيهِ غَرابَةٌ مِنَ الأحْوالِ والصِّفاتِ ﴿كالأعْمى والأصَمِّ والبَصِيرِ والسَّمِيعِ﴾ أيْ: كَحالِ هَؤُلاءِ، فَيَكُونُ ذَواتُهم كَذَواتِهِمْ، والكَلامُ وإنْ أمْكَنَ أنْ يُحْمَلَ عَلى تَشْبِيهِ الفَرِيقِ الأوَّلِ بِالأعْمى وبِالأصَمِّ وتَشْبِيهِ الفَرِيقِ الثّانِي بِالبَصِيرِ وبِالسَّمِيعِ - لَكِنَّ الأدْخَلَ في المُبالَغَةِ والأقْرَبَ إلى ما يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ المَثَلِ والأنْسَبَ بِما سَبَقَ مِن وصْفِ الكَفَرَةِ بِعَدَمِ اسْتِطاعَةِ السَّمْعِ وبِعَدَمِ الإبْصارِ - أنْ يُحْمَلَ عَلى تَشْبِيهِ الفَرِيقِ الأوَّلِ بِمَن جَمَعَ بَيْنَ العَمى والصَّمَمِ، وتَشْبِيهِ الفَرِيقِ الثّانِي بِمَن جَمَعَ بَيْنَ البَصَرِ والسَّمْعِ، عَلى أنْ تَكُونَ الواوُ في قَوْلِهِ تَعالى: "والأصَمِّ" وفي قَوْلِهِ: "والسَّمِيعِ" لِعَطْفِ الصِّفَةِ عَلى الصِّفَةِ، كَما في قَوْلِ مَن قالَ:
؎ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ
وَأيًّا ما كانَ فالظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالحالِ المَدْلُولِ عَلَيْها بِلَفْظِ المَثَلِ - وهي الَّتِي يَدُورُ عَلَيْها أمْرُ التَّشْبِيهِ - ما يُلائِمُ الأحْوالَ المَذْكُورَةَ المُعْتَبَرَةَ في جانِبِ المُشَبَّهِ بِهِ مِن تَعامِي الفَرِيقِ الأوَّلِ عَنْ مُشاهَدَةِ آياتِ اللَّهِ المَنصُوبَةِ في العالَمِ، والنَّظَرِ إلَيْها بِعَيْنِ الِاعْتِبارِ، وتَصامِّهِمْ عَنِ اسْتِماعِ آياتِ القرآن الكَرِيمِ وتَلَقِّيها بِالقَبُولِ، حَسْبَما ذُكِرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ﴾، وإنَّما لَمْ يُراعَ هَذا التَّرْتِيبُ هَهُنا لِكَوْنِ الأعْمى أظْهَرَ وأشْهَرَ في سُوءِ الحالِ مِنَ الأصَمِّ، ومِنِ اسْتِعْمالِ الفَرِيقِ الثّانِي لِكُلٍّ مِن أبْصارِهِمْ وأسْماعِهِمْ، فِيما ذُكِرَ كَما يَنْبَغِي، المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِما سَبَقَ مِنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ والإخْباتِ، حَسْبَما فُسِّرَ بِهِ فِيما مَرَّ، فَلا يَكُونُ التَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيًّا لِجَمِيعِ الأحْوالِ المَعْدُودَةِ لِكُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ مِمّا ذُكِرَ، وما يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنَ العَذابِ المُضاعَفِ والخُسْرانِ البالِغِ في أحَدِهِما، ومِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ في الآخَرِ، فَإنَّ اعْتِبارَ ذَلِكَ يَنْزِعُ إلى كَوْنِ التَّشْبِيهِ تَمْثِيلِيًّا، بِأنْ يُنْتَزَعَ مِن حالِ الفَرِيقِ الأوَّلِ في تَصامِّهِمْ وتَعامِيهِمُ المَذْكُورَيْنِ ووُقُوعِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ في العَذابِ المُضاعَفِ والخُسْرانِ الَّذِي لا خُسْرانَ فَوْقَهُ هَيْئَةٌ فَتُشَبَّهُ بِهَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِمَّنْ فَقَدَ مَشْعَرَيِ البَصَرِ والسَّمْعِ، فَتَخَبَّطَ في مَسْلَكِهِ فَوَقَعَ في مَهاوِي الرَّدى، ولَمْ يَجِدْ إلى مَقْصِدِهِ سَبِيلًا، ويُنْتَزَعَ مِن حالِ الفَرِيقِ الثّانِي في اسْتِعْمالِ مَشاعِرِهِمْ في آياتِ اللَّهِ تَعالى - حَسْبَما يَنْبَغِي - وفَوْزِهِمْ بِدارِ الخُلُودِ هَيْئَةٌ فَتُشَبَّهُ بِهَيْئَةٍ مُنْتَزَعَةٍ مِمَّنْ لَهُ بَصَرٌ وسَمْعٌ يَسْتَعْمِلُهُما في مُهِمّاتِهِ، فَيَهْتَدِي إلى سَبِيلِهِ ويَنالُ مَرامَهُ.
﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ﴾ يَعْنِي الفَرِيقَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ مُذَكِّرٌ لِما سَبَقَ مِن إنْكارِ المُماثَلَةِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ الآيَةَ (مَثَلًا) أيْ: حالًا وصِفَةً، وهو تَمْيِيزٌ مِن فاعِلِ (يَسْتَوِيانِ) ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ أيْ: أتَشُكُّونَ في عَدَمِ الِاسْتِواءِ وما بَيْنَهُما مِنَ التَّبايُنِ، أوْ أتَغْفُلُونَ عَنْهُ فَلا تَتَذَكَّرُونَهُ بِالتَّأمُّلِ فِيما ضُرِبَ (p-199)لَكم مِنَ المَثَلِ؟ فَيَكُونُ الإنْكارُ وارِدًا عَلى المَعْطُوفَيْنِ مَعًا، أوْ أتَسْمَعُونَ هَذا فَلا تَتَذَكَّرُونَ، فَيَكُونُ راجِعًا إلى عَدَمِ التَّذَكُّرِ بَعْدَ تَحَقُّقِ ما يُوجِبُ وُجُودَهُ وهو المَثَلُ المَضْرُوبُ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ (أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ)﴾ فَإنَّ الفاءَ هُناكَ لِإنْكارِ الِانْقِلابِ بَعْدَ تَحَقُّقِ ما يُوجِبُ عَدَمَهُ مِن عِلْمِهِمْ بِخُلُوِّ الرُّسُلِ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أوْ أفَلا تَفْعَلُونَ التَّذَكُّرَ، أوْ أفَلا تَعْقِلُونَ، ومَعْنى الهَمْزَةِ إنْكارُ عَدَمِ التَّذَكُّرِ، واسْتِبْعادُ صُدُورِهِ عَنِ المُخاطَبِينَ، وأنَّهُ لَيْسَ مِمّا يَصْلُحُ أنْ يَقَعَ لا مِن قَبِيلِ الإنْكارِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ﴾ فَإنَّ ذَلِكَ لِنَفْيِ المُماثَلَةِ، ونَفْيِ الِاسْتِواءِ.
وَلَمّا بُيِّنَ مِن فاتِحَةِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ إلى هَذا المَقامِ أنَّها كِتابٌ مُحْكَمُ الآياتِ، مُفَصَّلُها، نازِلٌ في شَأْنِ التَّوْحِيدِ وتَرْكِ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وأنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ مِن جِهَتِهِ تَعالى، وقُرِّرَ في تَضاعِيفِ ذَلِكَ ما لَهُ مَدْخَلٌ في تَحْقِيقِ هَذا المَرامِ مِنَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ وإلْزامِ المُعانِدِينَ بِما يُقارِنُهُ مِنَ الشَّواهِدِ الحَقَّةِ الدّالَّةِ عَلى كَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، وتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ مِمّا عَراهُ مِن ضِيقِ الصَّدْرِ العارِضِ لَهُ مِنِ اقْتِراحاتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، وتَسْمِيَتِهِمْ لِلْقُرْآنِ تارَةً سِحْرٌ وأُخْرى مُفْتَرًى، وتَثْبِيتِهِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ عَلى التَّمَسُّكِ بِهِ والعَمَلِ بِمُوجَبِهِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ، وأبْدَعِ أُسْلُوبٍ - شُرِعَ في تَحْقِيقِ ما ذُكِرَ وتَقْرِيرِهِ بِذِكْرِ قَصَصِ الأنْبِياءِ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - المُشْتَمِلَةِ عَلى ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فاتِحَةُ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ؛ لِيَتَأكَّدَ ذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ ما أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وفُرُوعِهِ مِمّا أطْبَقَ عَلَيْهِ الأنْبِياءُ قاطِبَةً.
والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ إنَّما عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِطَرِيقِ الوَحْيِ، فَلا يَبْقى في حَقِّيَّتِهِ كَلامٌ أصْلًا، ولِيَتَسَلّى بِما يُشاهِدُهُ مِن مُعاناةِ الرُّسُلِ قَبْلَهُ مِن أُمَمِهِمْ ومُقاساتِهِمُ الشَّدائِدَ مِن جِهَتِهِمْ، فَقِيلَ:
{"ayah":"۞ مَثَلُ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِیرِ وَٱلسَّمِیعِۚ هَلۡ یَسۡتَوِیَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق