الباحث القرآني
﴿ثُمَّ بَعَثْنا﴾ أيْ: أرْسَلْنا ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ: مِن بَعْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿رُسُلا﴾ التَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ ذاتًا ووَصْفًا، أيْ: رُسُلًا كِرامًا ذَوِي عَدَدٍ كَثِيرٍ ﴿إلى قَوْمِهِمْ﴾ أيْ: إلى أقْوامِهِمْ، لَكِنْ لا بِأنْ أرْسَلَنا كُلَّ رَسُولٍ مِنهم إلى أقْوامِ الكُلِّ، أوْ إلى قَوْمٍ ما أيَّ قَوْمٍ كانُوا، بَلْ كُلَّ رَسُولٍ إلى قَوْمِهِ خاصَّةً، مِثْلُ هُودٍ إلى عادٍ، وصالِحٍ إلى ثَمُودَ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّنْ قُصَّ مِنهم ومَن لَمْ يُقَصَّ.
﴿فَجاءُوهُمْ﴾ أيْ: جاءَ كُلُّ رَسُولٍ قَوْمَهُ المَخْصُوصِينَ بِهِ ﴿بِالبَيِّناتِ﴾ أيِ: المُعْجِزاتِ الواضِحَةِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ ما قالُوا، والباءُ إمّا مُتَعَلِّقَةٌ بِالفِعْلِ المَذْكُورِ عَلى أنَّها لِلتَّعْدِيَةِ، أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن ضَمِيرِ جاءُوا، أيْ: مُلْتَبِسِينَ بِالبَيِّناتِ، لَكِنْ لا بِأنْ يَأْتِيَ كُلُّ رَسُولٍ بِبَيِّنَةٍ واحِدَةٍ، بَلْ بِبَيِّناتٍ كَثِيرَةٍ خاصَّةٍ بِهِ مُعَيَّنَةٍ لَهُ حَسَبَ اقْتِضاءِ الحِكْمَةِ، فَإنَّ مُراعاةَ انْقِسامِ الآحادِ إلى الآحادِ إنَّما هي فِيما بَيْنَ ضَمِيرَيِ جاءُوهم كَما أُشِيرَ إلَيْهِ ﴿فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ بَيانٌ لِاسْتِمْرارِ عَدَمِ إيمانِهِمْ في الزَّمانِ الماضِي، لا لِعَدَمِ اسْتِمْرارِ إيمانِهِمْ، كَما مَرَّ مِثْلُهُ في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، أيْ: فَما صَحَّ وما اسْتَقامَ لِقَوْمٍ مِن أُولَئِكَ الأقْوامِ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ أنْ يُؤْمِنُوا، بَلْ كانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا مِنهم لِشِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ في الكُفْرِ والعِنادِ.
ثُمَّ إنْ كانَ المَحْكِيُّ آخِرَ حالِ كُلِّ قَوْمٍ حَسْبَما يَدُلُّ عَلَيْهِ حِكايَةُ قَوْمِ نُوحٍ، فالمُرادُ بِعَدَمِ إيمانِهِمُ المَذْكُورِ هَهُنا: إصْرارُهم عَلى ذَلِكَ بَعْدَ اللَّتَيّا والَّتِي وبِما أُشِيرَ إلَيْهِ في قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ –: ﴿ (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ)﴾ تَكْذِيبُهم مِن حِينِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إلى زَمانِ الإصْرارِ والعِنادِ، وإنَّما لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِالذّاتِ كالأوَّلِ - حَيْثُ جُعِلَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ - إيذانًا بِأنَّهُ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ غَنِيٌّ عَنِ البَيانِ، وإنَّما المُحْتاجُ إلى ذَلِكَ عَدَمُ إيمانِهِمْ بَعْدَ تَواتُرِ البَيِّناتِ الظّاهِرَةِ، وتَظاهُرِ المُعْجِزاتِ الباهِرَةِ الَّتِي كانَتْ تَضْطَرُّهم إلى القَبُولِ لَوْ كانُوا مِن أصْحابِ العُقُولِ، والمَوْصُولُ "الَّذِي" تَعَلَّقَ بِهِ الإيمانُ والتَّكْذِيبُ سَلْبًا وإيجابًا عِبارَةٌ عَنْ جَمِيعِ الشَّرائِعِ الَّتِي جاءَ بِها كُلُّ رَسُولٍ أُصُولِها وفُرُوعِها، وإنْ كانَ المَحْكِيُّ جَمِيعَ أحْوالِ كُلِّ قَوْمٍ مِنهم.
فالمُرادُ بِما ذُكِرَ أوَّلًا كُفْرُهُمُ المُسْتَمِرُّ مِن حِينٍ مَجِيءِ الرُّسُلِ إلى آخِرِهِ، وبِما أُشِيرَ إلَيْهِ آخِرًا تَكْذِيبُهم قَبْلَ مَجِيئِهِمْ، فَلا بُدَّ مَن كَوْنِ المَوْصُولِ المَذْكُورِ عِبارَةً عَنْ أُصُولِ الشَّرائِعِ الَّتِي أجْمَعَتْ عَلَيْها الرُّسُلُ قاطِبَةً، ودَعَوْا أُمَمَهم إلَيْها آثِرَ ذِي أثِيرٍ لِاسْتِحالَةِ تَبَدُّلِها وتَغَيُّرِها، مِثْلُ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ ولَوازِمِها، ومَعْنى تَكْذِيبُهم بِها قَبْلَ مَجِيءِ رُسُلِهِمْ أنَّهم ما كانُوا في زَمَنِ الجاهِلِيَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَسْمَعُوا بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ قَطُّ، بَلْ كانَ كُلُّ قَوْمٍ مِن أُولَئِكَ الأقْوامِ يَتَسامَعُونَ بِها مِن بَقايا مَن قَبْلَهم كَثَمُودَ مِن بَقايا عادٍ، وعادٍ مِن بَقايا قَوْمِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَيُكَذِّبُونَها، ثُمَّ كانَتْ حالَتُهم بَعْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ كَحالَتِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ كَأنْ لَمْ يُبْعَثْ إلَيْهِمْ أحَدٌ، وتَخْصِيصُ التَّكْذِيبِ وعَدَمِ الإيمانِ بِما ذُكِرَ مِنَ الأُصُولِ لِظُهُورِ حالِ الباقِي بِدَلالَةِ النَّصِّ، فَإنَّهم حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِما أجْمَعَتْ عَلَيْهِ كافَّةُ الرُّسُلِ فَلِأنْ لا يُؤْمِنُوا بِما تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُهم أوْلى، وعَدَمُ جَعْلِ هَذا التَّكْذِيبِ مَقْصُودًا بِالذّاتِ لِما أنَّ ما عَلَيْهِ يَدُورُ أمْرُ العَذابِ والعِقابِ (p-167)عِنْدَ اجْتِماعِ المُكَذِّبِينَ هو التَّكْذِيبُ الواقِعُ بَعْدَ الدَّعْوَةِ، حَسْبَما يُعْرِبُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ وإنَّما ذُكِرَ ما وقَعَ قَبْلَها بَيانًا لِعَراقَتِهِمْ في الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالضَّمائِرُ الثَّلاثَةُ مُتَوافِقَةٌ في المَرْجِعِ، وقِيلَ: ضَمِيرُ (كَذَّبُوا) راجِعٌ إلى قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، والمَعْنى: فَما كانَ قَوْمُ الرُّسُلِ لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبَ بِمِثْلِهِ قَوْمُ نُوحٍ، ولا يَخْفي ما فِيهِ مِنَ التَّعَسُّفِ.
وَقِيلَ: الباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ: بِسَبَبِ تَعَوُّدِهِمْ تَكْذِيبَ الحَقِّ وتَمَرُّنِهِمْ عَلَيْهِ قَبْلَ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، ولا يَخْفي أنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلى مُخالَفَةِ الجُمْهُورِ مِن جَعْلِ "ما" المَصْدَرِيَّةِ مِن قَبِيلِ الأسْماءِ، كَما - هو رَأْيُ الأخْفَشِ وابْنِ السَّرّاجِ - لِيَرْجِعَ إلَيْها الضَّمِيرُ، وفي إرْجاعِهِ إلى الحَقِّ بِادِّعاءِ كَوْنِهِ مَرْكُوزًا في الأذْهانِ ما لا يَخْفي مِنَ التَّعَسُّفِ.
﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ المُحْكَمِ ﴿نَطْبَعُ﴾ بِنُونِ العَظَمَةِ، وقُرِئَ بِالياءِ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ ﴿عَلى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ﴾ المُتَجاوِزِينَ عَنِ الحُدُودِ المَعْهُودَةِ في الكُفْرِ والعِنادِ، المُتَجافِينَ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ وسُلُوكِ طَرِيقِ الرَّشادِ، وذَلِكَ بِخِذْلانِهِمْ وتَخْلِيَتِهِمْ وشَأْنَهم لِانْهِماكِهِمْ في الغَيِّ والضَّلالِ، وفي أمْثالِ هَذا دَلالَةٌ عَلى أنَّ الأفْعالَ واقِعَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وكَسْبِ العَبْدِ.
{"ayah":"ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَاۤءُوهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَمَا كَانُوا۟ لِیُؤۡمِنُوا۟ بِمَا كَذَّبُوا۟ بِهِۦ مِن قَبۡلُۚ كَذَ ٰلِكَ نَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡمُعۡتَدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق