الباحث القرآني

﴿فَذَلِكُمُ﴾ فَذْلَكَةٌ لِما تَقَدَّمَ، أيْ: ذَلِكُمُ الَّذِي اعْتَرَفْتُمْ بِاتِّصافِهِ بِالنُّعُوتِ المَذْكُورَةِ وهو مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ﴾ خَبَرُهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبُّكُمُ﴾ أيْ: مالِكُكم ومُتَوَلِّي أُمُورَكم عَلى الإطْلاقِ بَدَلٌ مِنهُ، أوْ بَيانٌ لَهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحَقُّ﴾ صِفَةٌ لَهُ، أيْ: رَبُّكُمُ الثّابِتُ رُبُوبِيَّتُهُ والمُتَحَقِّقُ أُلُوهِيَّتُهُ تَحَقُّقًا لا رَيْبَ فِيهِ ﴿فَماذا﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكُلُّ اسْمًا واحِدًا قَدْ غُلِّبَ فِيهِ الِاسْتِفْهامُ عَلى اسْمِ الإشارَةِ، وأنْ يَكُونَ "ذا" مَوْصُولًا بِمَعْنى الَّذِي، أيْ: ما الَّذِي ﴿بَعْدَ الحَقِّ﴾ أيْ: غَيْرُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ، وإظْهارُ الحَقِّ إمّا لِأنَّ المُرادَ بِهِ غَيْرُ الأوَّلِ، وإمّا لِزِيادَةِ التَّقْرِيرِ ومُراعاةِ كَمالِ المُقابَلَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الضَّلالِ، والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ بِمَعْنى إنْكارِ الوُقُوعِ ونَفْيِهِ، أيْ: لَيْسَ غَيْرُ الحَقِّ ﴿إلا الضَّلالُ﴾ الَّذِي لا يَخْتارُهُ أحَدٌ، فَحَيْثُ ثَبَتَ أنَّ عِبادَةَ مَن هو مَنعُوتٌ بِما ذُكِرَ مِنَ النُّعُوتِ الجَمِيلَةِ حَقٌّ ظَهَرَ أنَّ ما عَداها مِن عِبادَةِ الأصْنامِ ضَلالٌ مَحْضٌ، إذْ لا واسِطَةَ بَيْنَهُما، وإنَّما سُمِّيَتْ ضَلالًا - مَعَ كَوْنِها مِن أعْمالِ الجَوارِحِ - بِاعْتِبارِ ابْتِنائِها عَلى ما هو ضَلالٌ مِنَ الِاعْتِقادِ، والرَّأْيُ هَذا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الحَقِّ عِبارَةً عَنِ التَّوْحِيدِ، وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ عِبارَةً عَنِ الأوَّلِ فالمُرادُ بِالضَّلالِ هو الأصْنامُ لا عِبادَتُها، والمَعْنى: فَماذا بَعْدَ الرَّبِّ الحَقِّ الثّابِتِ رُبُوبِيَّتُهُ إلّا الضَّلالُ؟ أيِ: الباطِلُ الضّائِعُ المُضْمَحِلُّ، وإنَّما سُمِّيَ بِالمَصْدَرِ مُبالَغَةً، كَأنَّهُ نَفْسُ الضَّلالِ والضَّياعِ، وهَذا أنْسَبُ بِقَوْلِهِ تَعالى: "وَضَلَّ عَنْهم ما كانُواْ يَفْتَرُونَ" عَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي. ﴿فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ اسْتِفْهامٌ إنْكارِيٌّ بِمَعْنى إنْكارِ الواقِعِ واسْتِبْعادِهِ والتَّعْجِيبِ مِنهُ، وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في تَوْجِيهِ الإنْكارِ إلى نَفْسِ الفِعْلِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ وُجُودُهُ عَلى حالٍ مِنَ الأحْوالِ قَطْعًا، فَإذا انْتَفي جَمِيعُ أحْوالِ وُجُودِهِ فَقَدِ انْتَفي وجُودُهُ عَلى الطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ كَما مَرَّ مِرارًا، والفاءُ لِتَرْتِيبِ الإنْكارِ عَلى ما قَبْلَهُ، أيْ: كَيْفَ تُصْرَفُونَ مِنَ الحَقِّ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ - وهو التَّوْحِيدُ - إلى الضَّلالِ عَنِ السَّبِيلِ المُسْتَبِينِ، وهو الإشْراكُ وعِبادَةُ الأصْنامِ، أوْ مِن عِبادَةِ رَبِّكُمُ الحَقِّ الثّابِتِ رُبُوبِيَّتُهُ إلى عِبادَةِ الباطِلِ الَّذِي سَمِعْتُمْ ضَلالَهُ وضَياعَهُ في الآخِرَةِ، وفي إيثارِ صِيغَةِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ إيذانٌ بِأنَّ الِانْصِرافَ مِنَ الحَقِّ إلى الضَّلالِ مِمّا لا يَصْدُرُ عَنِ العاقِلِ بِإرادَتِهِ وإنَّما يَقَعُ عِنْدَ وُقُوعِهِ بِالقَسْرِ مِن جِهَةِ صارِفٍ خارِجِيٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب