الباحث القرآني

﴿فَلَمّا أنْجاهُمْ﴾ مِمّا غَشِيَهم مِنَ الكُرْبَةِ، والفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى سُرْعَةِ الإجابَةِ ﴿إذا هم يَبْغُونَ في الأرْضِ﴾ أيْ: فاجَئُوا الفَسادَ فِيها وسارَعُوا إلَيْهِ مُتَراقِّينَ في ذَلِكَ، مُتَجاوِزِينَ عَمّا كانُوا عَلَيْهِ مِن حُدُودِ العَيْثِ مِن قَوْلِهِمْ: (بَغى الجُرْحُ) إذا تَرامى في الفَسادِ، وزِيادَةُ (فِي الأرْضِ) لِلدَّلالَةِ عَلى شُمُولِ بَغْيِهِمْ لِأقْطارِها، وصِيغَةُ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ تَأْكِيدٌ لِما يُفِيدُهُ البَغْيُ، أوْ مَعْناهُ: أنَّهُ بِغَيْرِ الحَقِّ عِنْدَهم أيْضًا بِأنْ يَكُونَ ذَلِكَ ظُلْمًا ظاهِرًا لا يَخْفي قُبْحُهُ عَلى أحَدٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ وأمّا ما قِيلَ مِن أنَّهُ لِلِاحْتِرازِ عَنِ البَغْيِ بِحَقٍّ - كَتَخْرِيبِ الغُزاةِ دِيارَ الكَفَرَةِ، وقَطْعِ أشْجارِهِمْ، وإحْراقِ زَرْعِهِمْ - فَلا يُساعِدُهُ النَّظْمُ الكَرِيمُ؛ لِابْتِنائِهِ عَلى كَوْنِ البَغْيِ بِمَعْنى إفْسادِ صُورَةِ الشَّيْءِ، وإبْطالِ مَنفَعَتِهِ دُونَ ما ذُكِرَ مِنَ المَعْنى اللّائِقِ بِحالِ المُفْسِدِينَ. ﴿يا أيُّها النّاسُ﴾ تَوْجِيهٌ لِلْخِطابِ إلى أُولَئِكَ الباغِينَ لِلتَّشْدِيدِ في التَّهْدِيدِ، والمُبالَغَةِ في الوَعِيدِ ﴿إنَّما بَغْيُكُمْ﴾ الَّذِي تَتَعاطَوْنَهُ، وهو مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ خَبَرُهُ، أيْ: عَلَيْكم في الحَقِيقَةِ لا عَلى الَّذِينَ تَبْغُونَ عَلَيْهِمْ وإنْ ظُنَّ كَذَلِكَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ بَيانٌ لِكَوْنِ ما فِيهِ مِنَ المَنفَعَةِ العاجِلَةِ شَيْئًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، سَرِيعَ الزَّوالِ، دائِمَ الوَبالِ، وهو نَصْبٌ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ، أيْ: تَتَمَتَّعُونَ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا، وقِيلَ: عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ وقَعَ مَوْقِعَ الحالِ، أيْ: مُتَمَتِّعِينَ بِالحَياةِ الدُّنْيا، والعامِلُ هو الِاسْتِقْرارُ الَّذِي في الخَبَرِ لا نَفْسُ البَغْيِ؛ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ بِالخَبَرِ، ولا يُخْبَرُ عَنِ المَوْصُولِ إلّا بَعْدَ تَمامِ صِلَتِهِ، وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّهُ لَيْسَ في تَقْيِيدِ كَوْنِ بَغْيِهِمْ عَلى أنْفُسِهِمْ بِحالِ تَمَتُّعِهِمْ بِالحَياةِ الدُّنْيا مَعْنًى يُعْتَدُّ بِهِ، وقِيلَ: عَلى أنَّهُ ظَرْفُ زَمانٍ نَحْوُ: (مَقْدَمَ الحاجِّ) أيْ: زَمَنَ مَتاعِ الحَياةِ الدُّنْيا، وفِيهِ ما مَرَّ بِعَيْنِهِ. وَقِيلَ: عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَصْدَرُ، أيْ: تَبْغُونَ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا، ولا يَخْفي أنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى البَغْيِ بِمَعْنى الطَّلَبِ، وجَعْلُ المَصْدَرِ أيْضًا بِمَعْناهُ مِمّا يُخِلُّ بِجَزالَةِ النَّظْمِ الكَرِيمِ؛ لِأنَّ الِاسْتِئْنافَ لِبَيانِ سُوءِ عاقِبَةِ ما حُكِيَ عَنْهم مِنَ البَغْيِ المُفَسَّرِ بِالإفْسادِ المُفْرِطِ اللّائِقِ بِحالِهِمْ، فَأيُّ مُناسَبَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ البَغْيِ بِمَعْنى الطَّلَبِ، وجَعْلُ الأوَّلِ أيْضًا بِمَعْناهُ مِمّا يَجِبُ تَنْزِيهُ ساحَةِ التَّنْزِيلِ عَنْهُ. وَقِيلَ: عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أيْ: لِأجْلِ مَتاعِ الحَياةِ الدُّنْيا، والعامِلُ ما ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِقْرارِ، وفِيهِ أنَّ المُعَلَّلَ بِما ذُكِرَ نَفْسُ البَغْيِ لا كَوْنُهُ عَلى أنْفُسِهِمْ، وقِيلَ: (أنْفُسِهِمْ) وقِيلَ: العامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالمَصْدَرِ، أيْ: تَبْغُونَ لِأجْلِ مَتاعِ الحَياةِ الدُّنْيا عَلى أنَّ الجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وقِيلَ: عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ صَرِيحٌ لِلْمَصْدَرِ و(عَلى أنْفُسِكُمْ) ظَرْفٌ لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والمُرادُ بِالأنْفُسِ الجِنْسُ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ لِطُولِ الكَلامِ، والتَّقْدِيرُ: إنَّما بَغْيُكم عَلى أبْناءِ جِنْسِكم مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا مَحْذُورٌ، أوْ ظاهِرُ الفَسادِ، أوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وفِيهِ ما مَرَّ مِنِ ابْتِنائِهِ عَلى ما لا يَلِيقُ بِالمَقامِ (p-136)مِن كَوْنِ البَغْيِ بِمَعْنى الطَّلَبِ. نَعَمْ، لَوْ جُعِلَ نَصْبُهُ عَلى العِلَّةِ، أيْ: إنَّما بَغْيُكم عَلى أبْناءِ جِنْسِكم لِأجْلِ مَتاعِ الحَياةِ الدُّنْيا مَحْذُورٌ - كَما اخْتارَهُ بَعْضُهم - لَكانَ لَهُ وجْهٌ في الجُمْلَةِ، لَكِنَّ الحَقَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ جَزالَةُ التَّنْزِيلِ إنَّما هو الأوَّلُ، وقُرِئَ (مَتاعُ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ الخَبَرُ، والظَّرْفُ صِلَةٌ لِلْمَصْدَرِ، أوْ خَبَرٌ ثانٍ، أوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هو مَتاعُ ... إلَخْ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا ساعَةً مِن نَهارٍ بَلاغٌ﴾ أيْ: هَذا بَلاغٌ. فالمُرادُ بِأنْفُسِهِمْ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ: أبْناءُ جِنْسِهِمْ، وإنَّما عُبِّرَ عَنْهم بِذَلِكَ؛ هَزًّا لِشَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِمْ، وحَثًّا لَهم عَلى تَرْكِ إيثارِ التَّمَتُّعِ المَذْكُورِ عَلى حُقُوقِهِمْ، ولا مَجالَ لِلْحَمْلِ عَلى الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ كَوْنَ بَغْيِهِمْ وبالًا عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِثابِتٍ عِنْدَهُمْ، حَسْبَما يَقْتَضِيهِ ما حُكِيَ عَنْهُمْ، ولَمْ يُخْبَرْ بِهِ بَعْدُ حَتّى يُجْعَلَ مِن تَتِمَّةِ الكَلامِ، ويُجْعَلَ كَوْنُهُ مَتاعًا مَقْصُودَ الإفادَةِ، عَلى أنَّ عُنْوانَ كَوْنِهِ وبالًا عَلَيْهِمْ قادِحٌ في كَوْنِهِ مَتاعًا - فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِن مَبادِئِ ثُبُوتِهِ لِلْمُبْتَدَأِ، كَما هو المُتَبادَرُ مِنَ السَّوْقِ. وَأمّا كَوْنُ البَغْيِ عَلى أبْناءِ الجِنْسِ فَمَعْلُومُ الثُّبُوتِ عِنْدَهم ومُتَضَمِّنٌ لِمَبادِئِ التَّمَتُّعِ مِن أخْذِ المالِ والِاسْتِيلاءِ عَلى النّاسِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وأمّا عَلى الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْنِ فَلا مُوجِبَ لِلْعُدُولِ عَنِ الحَقِيقَةِ، فَإنَّ المُبْتَدَأ إمّا نَفْسُ البَغْيِ أوِ الضَّمِيرُ العائِدُ إلَيْهِ مِن حَيْثُ هو هو لا مِن حَيْثُ كَوْنُهُ وبالًا عَلَيْهِمْ، كَما في صُورَةِ كَوْنِ الظَّرْفِ صِلَةً لِلْمَصْدَرِ، فَتَدَبَّرْ. وَقُرِئَ: (مَتاعًا الحَياةَ الدُّنْيا) أمّا نَصْبُ مَتاعًا فَعَلى ما مَرَّ، وأمّا نَصْبُ (الحَياةَ) فَعَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن (مَتاعًا) بَدَلَ اشْتِمالٍ، وقِيلَ: عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ(مَتاعًا) إذا لَمْ يَكُنِ انْتِصابُهُ عَلى المَصْدَرِيَّةِ؛ لِأنَّ المَصْدَرَ المُؤَكِّدَ لا يَعْمَلُ. عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««لا تَمْكُرْ ولا تُعِنْ ماكِرًا، ولا تَبْغِ ولا تُعِنْ باغِيًا، ولا تَنْكُثْ ولا تُعِنْ ناكِثًا»» وكانَ يَتْلُوها. وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ: البَغْيُ والنَّكْثُ والمَكْرُ، قالَ تَعالى: ﴿ (إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكُمْ)﴾ ﴿ (وَما يَمْكُرُونَ إلا بِأنْفُسِهِمْ)﴾ ﴿ (فَمَن نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)﴾ وعَنْهُ ﷺ: ««أسْرَعُ الخَيْرِ ثَوابًا صِلَةُ الرَّحِمِ، وأعْجَلُ الشَّرِّ عِقابًا البَغْيُ واليَمِينُ الفاجِرَةُ»» ورُوِيَ: ««ثِنْتانِ يُعَجِّلُهُما اللَّهُ تَعالى في الدُّنْيا البَغْيُ وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ»» وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -: لَوْ بَغى جَبَلٌ عَلى جَبَلٍ لَدُكَّ الباغِي. ﴿ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى ما مَرَّ مِنَ الجُمْلَةِ المُسْتَأْنَفَةِ المُقَدَّرَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: تَتَمَتَّعُونَ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ تَرْجِعُونَ إلَيْنا، وإنَّما غُيِّرَ السَّبْكُ إلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مَعَ تَقْدِيمِ الجارِّ والمَجْرُورِ لِلدَّلالَةِ عَلى الثَّباتِ والقَصْرِ ﴿فَنُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدُّنْيا عَلى الِاسْتِمْرارِ مِنَ البَغْيِ، وهو وعِيدٌ بِالجَزاءِ والعَذابِ،كَقَوْلِ الرِّجْلِ لِمَن يَتَوَعَّدُهُ: سَأُخْبِرُكَ بِما فَعَلْتَ، وفِيهِ نُكْتَةٌ خَفِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى حِكْمَةٍ أبِيَّةٍ، وهي أنَّ كُلَّ ما يَظْهَرُ في هَذِهِ النَّشْأةِ مِنَ الأعْيانِ والأعْراضِ فَإنَّما يَظْهَرُ بِصُورَةٍ مُغايِرَةٍ لِصُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ الَّتِي بِها يَظْهَرُ في النَّشْأةِ الآخِرَةِ، فَإنَّ المَعاصِيَ مَثَلًا سُمُومٌ قاتِلَةٌ، قَدْ بَرَزَتْ في الدُّنْيا بِصُورَةٍ تَسْتَحْسِنُها نُفُوسُ العُصاةِ، وكَذا الطّاعاتُ - مَعَ كَوْنِها أحْسَنَ الأحاسِنِ - قَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَهم بِصُوَرٍ مَكْرُوهَةٍ، ولِذَلِكَ قالَ ﷺ: ««حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النّارُ بِالشَّهَواتِ»» فالبَغْيُ في هَذِهِ النَّشْأةِ وإنْ بَرَزَ بِصُورَةٍ تَشْتَهِيها البُغاةُ، وتَسْتَحْسِنُها الغُواةُ لِتَمَتُّعِهِمْ بِهِ مِن حَيْثُ أخْذُ المالِ والتَّشَفِّي مِنَ الأعْداءِ ونَحْوُ ذَلِكَ - لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَمَتُّعٍ في الحَقِيقَةِ، بَلْ هو تَضَرُّرٌ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُونَ وإنَّما يَظْهَرُ لَهم ذَلِكَ عِنْدَ إبْرازِ ما كانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ البَغْيِ بِصُورَةِ الحَقِيقَةِ المُضادَّةِ لِما كانُوا يُشاهِدُونَهُ عَلى ذَلِكَ مِنَ الصُّورَةِ، وهو المُرادُ بِالتَّنْبِئَةِ المَذْكُورَةِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب