الباحث القرآني
﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا﴾ الهَمْزَةُ لِإنْكارِ تَعَجُّبِهِمْ ولِتَعَجُّبِ السّامِعِينَ مِنهُ لِكَوْنِهِ في غَيْرِ مَحَلِّهِ، والمُرادُ بِالنّاسِ كَفّارُ مَكَّةَ، وإنَّما عُبِّرَ عَنْهم بِاسْمِ الجِنْسِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكُفْرِهِمْ - مَعَ أنَّهُ المَدارُ لِتَعَجُّبِهِمْ، كَما تُعُرِّضَ لَهُ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قالَ الكافِرُونَ﴾ ... إلَخْ - لِتَحْقِيقِ ما فِيهِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وتَعْيِينِ مَدارِ التَّعَجُّبِ في زَعْمِهِمْ، ثُمَّ تَبْيِينِ خَطَئِهِمْ وإظْهارِ بُطْلانِ زَعْمِهِمْ بِإيرادِ الإنْكارِ والتَّعْجِيبِ، واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن (عَجَبًا) وقِيلَ: بِعَجَبًا عَلى التَّوَسُّعِ المَشْهُورِ في الظُّرُوفِ، وقِيلَ: المَصْدَرُ إذا كانَ بِمَعْنى اسْمِ الفاعِلِ أوِ اسْمِ المَفْعُولِ جازَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، وقِيلَ: مُتَعَلِّقَةٌ بِـ(كانَ) وهو مَبْنِيٌّ عَلى دَلالَةِ كانَ النّاقِصَةِ عَلى الحَدَثِ.
﴿أنْ أوْحَيْنا﴾ اسْمُ كانَ قُدِّمَ عَلَيْهِ خَبَرُها اهْتِمامًا بِشَأْنِهِ لِكَوْنِهِ مَدارَ الإنْكارِ والتَّعْجِيبِ وتَشْوِيقًا إلى المُؤَخَّرِ؛ ولِأنَّ في الِاسْمِ ضَرْبَ تَفْصِيلٍ فَفي مُراعاةِ الأصْلِ نَوْعُ إخْلالٍ بِتَجاوُبِ أطْرافِ الكَلامِ، وقُرِئَ بِرَفْعِ (عَجَبٌ) عَلى أنَّهُ الِاسْمُ وهو نَكِرَةٌ والخَبَرُ (أنْ أوْحَيْنا) وهو مَعْرِفَةٌ؛ لِأنَّ "أنْ" مَعَ الفِعْلِ في تَأْوِيلِ المَصْدَرِ المُضافِ إلى المَعْرِفَةِ البَتَّةَ والمُخْتارُ حِينَئِذٍ أنْ تُجْعَلَ كانَ تامَّةً و"أنْ أوْحَيْنا" مُتَعَلِّقًا بِـ(عَجَبٌ) عَلى حَذْفِ حَرْفِ التَّعْلِيلِ، أيْ: أحَدَثَ لِلنّاسِ عَجَبٌ لِـ"أنْ أوْحَيْنا"، أوْ مِن "أنْ أوْحَيْنا"، أوْ بَدَلًا مِن (عَجَبٌ) لَكِنْ لا عَلى تَوْجِيهِ الإنْكارِ والتَّعْجِيبِ إلى حُدُوثِهِ، بَلْ إلى كَوْنِهِ عَجَبًا، فَإنَّ كَوْنَ الإبْدالِ في حُكْمِ تَنْحِيَةِ المُبْدَلِ مِنهُ لَيْسَ مَعْناهُ إهْدارَهُ بِالمَرَّةِ، وإنَّما قِيلَ: لِلنّاسِ لا عِنْدَ النّاسِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ أُعْجُوبَةً لَهم وفِيهِ مِن زِيادَةِ تَقْبِيحِ حالِهِمْ ما لا يَخْفى.
﴿إلى رَجُلٍ مِنهُمْ﴾ أيْ: إلى بَشَرٍ مِن جِنْسِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: (أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) أوْ مِن أفْنائِهِمْ (p-117)مِن حَيْثُ المالُ لا مِن عُظَمائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ: ﴿ (لَوْلا نُزِّلَ هَذا القرآن عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)﴾ وكِلا الوَجْهَيْنِ مِن ظُهُورِ البُطْلانِ بِحَيْثُ لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ بَعْثَ المَلَكِ إنَّما يَكُونُ عِنْدَ كَوْنِ المَبْعُوثِ إلَيْهِمْ مَلائِكَةً، كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ لَوْ كانَ في الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكًا رَسُولا﴾، وأمّا عامَّةُ البَشَرِ فَهم بِمَعْزِلٍ مِنِ اسْتِحْقاقِ المُفاوَضَةِ المَلَكِيَّةِ، كَيْفَ لا وهي مَنُوطَةٌ بِالتَّناسُبِ والتَّجانُسِ؟ فَبَعْثُ المَلَكِ إلَيْهِمْ مُزاحِمٌ لِلْحِمْكَةِ الَّتِي عَلَيْها يَدُورُ فَلَكُ التَّكْوِينِ والتَّشْرِيعِ، وإنَّما الَّذِي تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ أنْ يُبْعَثَ المَلَكُ مِن بَيْنِهِمْ إلى الخَواصِّ المُخْتَصِّينَ بِالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ المُؤَيَّدِينَ بِالقُوَّةِ القُدْسِيَّةِ المُتَعَلِّقِينَ بِكِلا العالَمَيْنِ الرُّوحانِيِّ والجُسْمانِيِّ، لِيَتَلَقَّوْا مِن جانِبٍ ويُلْقُوا إلى جانِبٍ.
وَأمّا الثّانِي: فَلِما أنَّ مَناطَ الِاصْطِفاءِ لِلنُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ هو التَّقَدُّمُ في الِاتِّصافِ بِما ذُكِرَ مِنَ النُّعُوتِ الجَمِيلَةِ، والصِّفاتِ الجَلِيلَةِ، والسَّبْقِ في إحْرازِ الفَضائِلِ العَلِيَّةِ وحِيازَةِ المَلَكاتِ السَّنِيَّةِ جِبِلَّةً واكْتِسابًا، ولا رَيْبَ لِأحَدٍ مِنهم في أنَّهُ ﷺ في ذَلِكَ الشَّأْنِ في غايَةِ الغاياتِ القاصِيَةِ ونِهايَةِ النِّهاياتِ النّائِيَةِ، وأمّا التَّقَدُّمُ في الرِّياساتِ الدُّنْيَوِيَّةِ والسَّبْقِ في نَيْلِ الحُظُوظِ الدَّنِيَّةِ فَلا دَخْلَ لَهُ في ذَلِكَ قَطْعًا، بَلْ لَهُ إخْلالٌ بِهِ غالِبًا، قالَ ﷺ: ««لَوْ كانَتِ الدُّنْيا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ ما سَقى الكافِرَ مِنها شَرْبَةَ ماءٍ».»
﴿أنْ أنْذِرِ النّاسَ﴾ أنَّ مَصْدَرِيَّةٌ لِجَوازِ كَوْنِ صِلَتِها أمْرًا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنْ أقِمْ وجْهَكَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ الخَبَرُ والإنْشاءُ في الدَّلالَةِ عَلى المَصْدَرِ سِيّانِ فَساغَ وُقُوعُ الأمْرِ والنَّهْيِ صِلَةً حَسَبَ وُقُوعِ الفِعْلِ، فَلْيُجَرَّدْ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ مَعْنى الأمْرِ والنَّهْيِ نَحْوَ تَجَرُّدِ الصِّلَةِ الفِعْلِيَّةِ عَنْ مَعْنى المُضِيِّ والِاسْتِقْبالِ، ووُجُوبُ كَوْنِ الصِّلَةِ في المَوْصُولِ الِاسْمِيِّ خَبَرِيَّةً إنَّما هو لِلتَّوَصُّلِ بِها إلى وصْفِ المَعارِفِ بِالجُمَلِ لا لِقُصُورٍ في دَلالَةِ الإنْشاءِ عَلى المَصْدَرِ.
أوْ مُفَسِّرَةٌ إذِ الإيحاءُ فِيهِ مَعْنى القَوْلِ، وقَدْ جُوِّزَ كَوْنُها مُخَفِّفَةً مِنَ المُثَقَّلَةِ عَلى حَذْفِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ والقَوْلِ مِنَ الخَبَرِ، والمَعْنى: أنَّ الشَّأْنَ قَوْلُنا أنْذِرِ النّاسَ، والمُرادُ بِهِ جَمِيعُ النّاسِ كافَّةً لا ما أُرِيدَ بِالأوَّلِ، وهو النُّكْتَةُ في إيثارِ الإظْهارِ عَلى الإضْمارِ، وكَوْنُ الثّانِي عَيْنَ الأوَّلِ عِنْدَ إعادَةِ المَعْرِفَةِ لَيْسَ عَلى الإطْلاقِ.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بِما أوْحَيْناهُ وصَدَّقُوهُ ﴿أنَّ لَهُمْ﴾ أيْ: بِأنَّ لَهم ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ أيْ: سابِقَةً ومَنزِلَةً رَفِيعَةً ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وإنَّما عُبِّرَ عَنْها بِها إذْ بِها يَحْصُلُ السَّبْقُ والوُصُولُ إلى المَنازِلِ الرَّفِيعَةِ، كَما يُعَبَّرُ عَنِ النِّعْمَةِ بِاليَدِ؛ لِأنَّها تُعْطى بِها، وقِيلَ: مَقامَ صِدْقٍ، والوَجْهُ أنَّ الوُصُولَ إلى المَقامِ إنَّما يَحْصُلُ بِالقَدَمِ، وإضافَتُها إلى الصِّدْقِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَحَقُّقِها وثَباتِها، ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ مَدارَ نَيْلِ ما نالُوهُ مِنَ المَراتِبِ العَلِيَّةِ هو صِدْقُهُمْ، فَإنَّ التَّصْدِيقَ لا يَنْفَكُّ عَنِ الصِّدْقِ.
﴿قالَ الكافِرُونَ﴾ هُمُ المُتَعَجِّبُونَ، وإيرادُهم هَهُنا بِعُنْوانِ الكُفْرِ مِمّا لا حاجَةَ إلى ذِكْرِ سَبَبِهِ، وتَرْكُ العاطِفِ لِجَرَيانِهِ مَجْرى البَيانِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْها هَمْزَةُ الإنْكارِ، أوْ لِكَوْنِهِ اسْتِئْنافًا مَبْنِيًّا عَلى السُّؤالِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ماذا صَنَعُوا بَعْدَ التَّعَجُّبِ؟ هَلْ بَقُوا عَلى التَّرَدُّدِ والِاسْتِبْعادِ أوْ قَطَعُوا فِيهِ بِشَيْءٍ؟ فَقِيلَ: "قالَ الكافِرُونَ" عَلى طَرِيقَةِ التَّأْكِيدِ ﴿إنَّ هَذا﴾ يَعْنُونَ بِهِ ما أُوحِيَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ القرآن الحَكِيمِ المُنْطَوِي عَلى الإنْذارِ والتَّبْشِيرِ ﴿لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ: ظاهِرٌ، وقُرِئَ (لَساحِرٌ) عَلى أنَّ الإشارَةَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقُرِئَ (ما هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وهَذا اعْتِرافٌ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بِأنَّ ما عايَنُوهُ خارِجٌ عَنْ طَوْقِ البَشَرِ، نازِلٌ مِن جَنابِ خَلّاقِ القُوى والقَدَرِ، ولَكِنَّهم سَمَّوْهُ بِما قالُوا تَمادِيًا في العِنادِ، كَما هو دَيْدَنُ (p-118)المُكابِرِ اللَّجُوجِ، ودَأْبُ المُفْحَمِ المَحْجُوجِ.
{"ayah":"أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ رَجُلࣲ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرࣱ مُّبِینٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق