الباحث القرآني

﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنّاسِ﴾ هُمُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَ اللَّهِ تَعالى لِإنْكارِهِمُ البَعْثَ، وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (p-125)مِنَ الحِسابِ والجَزاءِ، أُشِيرَ إلى بَعْضٍ مِن عَظائِمِ مَعاصِيهِمُ المُتَفَرِّعَةِ عَلى ذَلِكَ، وهو اسْتِعْجالُهم بِما أُوعِدُوا بِهِ مِنَ العَذابِ تَكْذِيبًا واسْتِهْزاءً، وإيرادُهم بِاسْمِ الجِنْسِ لِما أنَّ تَعْجِيلَ الخَيْرِ لَهم لَيْسَ دائِرًا عَلى وصْفِهِمُ المَذْكُورِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْراجِ، أيْ: لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهم ﴿الشَّرَّ﴾ الَّذِي كانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، فَإنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: ﴿ (اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِن السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ)﴾ ونَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اسْتِعْجالَهم بِالخَيْرِ﴾ نُصِبَ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ وُضِعَ مَوْضِعَ مَصْدَرِ ناصِبِهِ دَلالَةً عَلى اعْتِبارِ الِاسْتِعْجالِ في جانِبِ المُشَبَّهِ، كاعْتِبارِ التَّعْجِيلِ في جانِبِ المُشَبَّهِ بِهِ، وإشْعارًا بِسُرْعَةِ إجابَتِهِ تَعالى لَهُمْ، حَتّى كانَ اسْتِعْجالُهم بِالخَيْرِ نَفْسَ تَعْجِيلِهِ لَهُمْ، والتَّقْدِيرُ: ولَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لَهُمُ الشَّرَّ عِنْدَ اسْتِعْجالِهِمْ بِهِ تَعْجِيلًا مِثْلَ تَعْجِيلِهِ لَهُمُ الخَيْرَ عِنْدَ اسْتِعْجالِهِمْ بِهِ فَحُذِفَ ما حُذِفَ؛ تَعْوِيلًا عَلى دَلالَةِ الباقِي عَلَيْهِ. ﴿لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ﴾ لَأُدِّيَ إلَيْهِمُ الأجَلُ الَّذِي عُيِّنَ لِعَذابِهِمْ، وأُمِيتُوا وأُهْلِكُوا بِالمَرَّةِ، وما أُمْهِلُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وفي إيثارِ صِيغَةِ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ جَرْيٌ عَلى سُنَنِ الكِبْرِياءِ مَعَ الإيذانِ بِتَعَيُّنِ الفاعِلِ، وقُرِئَ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ، كَما قُرِئَ: (لَقَضَيْنا) واخْتِيارُ صِيغَةِ الِاسْتِقْبال في الشَّرْطِ - وإنْ كانَ المَعْنى عَلى المُضِيِّ - لِإفادَةِ أنَّ عَدَمَ قَضاءِ الأجْلِ لِاسْتِمْرارِ عَدَمِ التَّعْجِيلِ، فَإنَّ المُضارِعَ المَنفِيَّ الواقِعَ مَوْقِعَ الماضِي لَيْسَ بِنَصٍّ في إفادَةِ انْتِفاءِ اسْتِمْرارِ الفِعْلِ، بَلْ قَدْ يُفِيدُ اسْتِمْرارَ انْتِفائِهِ أيْضًا بِحَسَبِ المَقامِ، كَما حُقِّقَ في مَوْضِعِهِ، واعْلَمْ أنَّ مَدارَ الإفادَةِ في الشَّرْطِيَّةِ أنْ يَكُونَ التّالِي أمْرًا مُغايِرًا لِلْمُقَدَّمِ في نَفْسِهِ مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ في الوُجُودِ، كَما في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لَوْ يُطِيعُكم في كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ فَإنَّ العَنَتَ – أيِ: الوُقُوعَ في المَشَقَّةِ والهَلاكِ - أمْرٌ مُغايِرٌ لِطاعَتِهِ - ﷺ – لَهُمْ، مُتَرَتِّبٌ عَلَيْها في الوُجُودِ، أوْ يَكُونَ فَرْدًا كامِلًا مِن أفْرادِهِ مُمْتازًا عَنِ البَقِيَّةِ بِأمْرٍ يَخُصُّهُ كَما في الأجْوِبَةِ المَحْذُوفَةِ في مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ﴾ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ﴾ ونَظائِرِها، أيْ: لَرَأيْتَ أمْرًا هائِلًا فَظِيعًا أوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وكَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ إذا فُسِّرَ الجَوابُ بِالِاسْتِئْصالِ، فَإنَّهُ فَرْدٌ كامِلٌ مِن أفْرادِ مُطَلَّقِ المُؤاخَذَةِ، قَدْ عُبِّرَ عَنْهُ بِما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ في الدَّلالَةِ عَلى الشِّدَّةِ والفَظاعَةِ، فَحَسَنُ مَوْقِعُهُ في مَعْرِضِ التّالِي لِلْمُؤاخَذَةِ المُطْلَقَةِ. وَأمّا ما نَحْنُ فِيهِ مِنَ القَضاءِ فَلَيْسَ بِأمْرٍ مُغايِرٍ لِتَعْجِيلِ الشَّرِّ في نَفْسِهِ وهو ظاهِرٌ، بَلْ هو إمّا نَفْسُهُ أوْ جُزْئِيٌّ مِنهُ كَسائِرِ جُزْئِيّاتِهِ مِن غَيْرِ مَزِيَّةٍ عَلى البَقِيَّةِ، إذْ لَمْ يُعْتَبَرْ في مَفْهُومِهِ ما لَيْسَ في مَفْهُومِ تَعْجِيلِ الشَّرِّ مِنَ الشِّدَّةِ والهَوْلِ، فَلا يَكُونُ في تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ - وُجُودًا أوْ عَدَمًا - مَزِيدُ فائِدَةٍ مُصَحِّحَةٍ لِجَعْلِهِ تالِيًا لَهُ، فالحَقُّ أنَّ المُقَدَّمَ لَيْسَ نَفْسَ التَّعْجِيلِ المَذْكُورِ، بَلْ هو إرادَتُهُ المُسْتَتْبِعَةُ لِلْقَضاءِ المَذْكُورِ وُجُودًا وعَدَمًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ يُؤاخِذُهم بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ﴾ أيْ: لَوْ يُرِيدُ مُؤاخَذَتَهُمْ، فَإنَّ تَعْجِيلَ العَذابِ لَهم نَفْسُ المُؤاخَذَةِ، أوْ جُزْئِيٌّ مِن جُزْئِيّاتِها غَيْرُ مُمْتازٍ عَنِ البَقِيَّةِ، فَلَيْسَ في بَيانِ تَرَتُّبِهِ عَلَيْها - وُجُودًا أوْ عَدَمًا - مَزِيدُ فائِدَةٍ، وإنَّما الفائِدَةُ في بَيانِ تَرَتُّبِهِ عَلى إرادَتِها حَسْبَما ذُكِرَ، وأيْضًا في تَرَتُّبِ التّالِي عَلى إرادَةِ المُقَدَّمِ ما لَيْسَ في تَرَتُّبِهِ عَلى نَفْسِهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى المُبالَغَةِ وتَهْوِيلِ الأمْرِ، والدَّلالَةِ عَلى أنَّ الأُمُورَ مَنُوطَةٌ بِإرادَتِهِ تَعالى المَبْنِيَّةِ عَلى الحِكَمِ البالِغَةِ. ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا﴾ بِنُونِ العَظَمَةِ الدّالَّةِ عَلى التَّشْدِيدِ في الوَعِيدِ، وهو عَطْفٌ عَلى مُقَدَّرٍ تُنْبِئُ عَنْهُ الشَّرْطِيَّةُ، كَأنَّهُ قِيلَ: لَكِنْ لا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِما تَقْتَضِيهِ (p-126)الحِكْمَةُ فَنَتْرُكُهم إمْهالًا واسْتِدْراجًا ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ الَّذِي هو عَدَمُ رَجاءِ اللِّقاءِ، وإنْكارُ البَعْثِ والجَزاءِ وما يَتَفَرَّعُ عَلى ذَلِكَ مِن أعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ ومَقالاتِهِمُ الشَّنِيعَةِ ﴿يَعْمَهُونَ﴾ أيْ: يَتَرَدَّدُونَ ويَتَحَيَّرُونَ، فَفي وضْعِ المَوْصُولِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ نَوْعُ بَيانٍ لِلطُّغْيانِ بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ، وإشْعارٌ بِعِلِّيَّتِهِ لِلتَّرْكِ والِاسْتِدْراجِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب